
جميع الحقوق محفوظة © الشعر العربي 2025
جميع الحقوق محفوظة © الشعر العربي 2025
جميع الحقوق محفوظة © الشعر العربي 2025
عَبِيدُ بنُ الأبرصِ الأسديّ، أبو زِياد، شاعِرٌ جاهِلِيٌّ قَديم، تُوفّيَ نحو 77ق.ه/545م. أحدُ شعراءِ المعلّقاتِ في تصنيف التّبريزيّ وشعراء المجمهراتِ في تصنيف أبي زيدٍ القرشيّ، وعدّه ابنُ سلّام في شعراء الطّبقة الرّابعة. كانَ شاعرَ قبيلتِهِ "أسد" وأحد وجهائها الكبار، اشْتُهِرَ بتوثيقِهِ لمآثرِ قبيلتِهِ لا سيّما حادثة قتلِهِم للملك الكِنْدِيّ "حُجر بن الحارث"، وفي شعرِهِ مناكفاتٌ مع امرئ القيس الّذي كان يطلبُ ثأرَه في قبيلةِ عَبيد. يُعَدّ في الشّعراء المعمّرين، وتدور موضوعاتُ شعرِهِ حول الحكمة ووصف الشّيب والشّيخوخة، بالإضافة إلى شعرِهِ في الفخر بنفسهِ وقبيلتِه، وشعرِهِ في وصفِ العواصفِ والأمطار. يرى كثيرٌ من الباحثين أنّ شعرَهُ مضطربٌ من النّاحية العروضيّة، ويستدلّ آخرون بشعرِهِ على أنّه ممثّل لبدايات الشّعر العربيّ. قُتِلَ على يدِ المنذر بن ماء السّماء بسببِ ظهورِهِ عليهِ في يومِ بُؤسِهِ كما تقولُ الرّواياتُ التّاريخيّة.
عَمْرُو بْنُ قَمِيئَةَ، مِنْ قَبِيلَةِ بَكْرِ بْنِ وائِلٍ، وهو مِنْ أَقْدَمِ الشُّعَراءِ الجاهِلِيِّينَ، شاعِرٌ فَحْلٌ صَنَّفُهُ ابْنُ سَلّامٍ فِي الطَّبَقَةِ الثّامِنَةِ مِنْ طَبَقاتِ فُحُولِ الشُّعَراءِ، اشْتُهِرَ بِمُرافَقَتِهِ لِاِمْرِئِ القَيْسِ فِي رِحْلَتِهِ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، وَإِيّاهُ عَنَى امْرَؤُ القَيْسِ بِقَوْلِهِ (بَكَى صاحِبِي لَما رَأَى الدَّرْبَ دُونَهُ)، وَقد تُوُفِّيَ فِي رِحْلَتِهِ هذِهِ فَسُمِّيَ عَمْراً الضّائِعَ، وَكانَتْ وَفاتُهُ نَحْوَ عامِ 85هـ/ 540م.
السُّليك بن السُّلَكة هو السُّليك بنُ بنُ عمرِو بنِ سنان، من قبيلةِ سعد بنِ زيد مناة المنحدرة من قبائل تميم النّزارية العدنانيّة. والسُّلَكَة: أمُّه، ويُنسَب إليها. شاعرٌ جاهليٌّ من كبارِ الشّعراءِ الصّعاليك، عُرِفَ بغاراتِهِ على قبائلِ مراد وخثعم وبكر بن وائل، وكان معروفاً بشدّة البأس والقدرةِ الفائقةِ على العَدْو والمعرفة العظيمة بالصّحراء والمفاوز والقفار. يُعَدّ من أغربةِ العرب؛ لسوادِ بشرتِهِ ونسبتِهِ إلى أمِّه وشجاعتِهِ وشاعريّته، وقد قُتِل على يد أنس بن مدرك الخثعميّ نحو سنة 17ق.ه/606م. عدّهُ المفضّل الضبّيّ من أشدّ رجال العرب وأنكرِهم وأشعرِهم، ويدورُ شعرُه حول وصفِ صعلكتِهِ وغاراتِهِ ومشاهدِه.
امرُؤ القيس بن حُجر بن الحارث الكِنْدِيّ، يُلقّبُ بالملك الضّلّيل وبذي القُروح. شاعرٌ جاهليٌّ كبيرٌ من قبيلةِ كندة الّتي شكّلت مملكةً في نجد قبل الإسلام، تُوفّيَ نحو 85ق.ه/545م. عاشَ مرحلتينِ بارزتينِ من حياته؛ ابتدأت الأولى منذُ صباه وتميّزت بالتّرفِ واللَّهو النّاتجينِ عن كونِهِ ابناً لأسرةٍ ملكيّة، والأخرى ابتدأت بمقتل أبيه الملك حُجر بن الحارث على يد قبيلةِ أسد، وهي مرحلة امتازت بالحروب وطلب الثّأرِ والتنقّل بين القبائل العربيّة إلى أن وصلَ إلى قيصرِ الرّوم طلباً للمساعدة، وهناك أهداهُ الملكُ حلّةً مسمومةً جعلته يموتُ بمرضٍ جلديّ. يُعَدّ شاعراً من أهمّ الشّعراء العرب على مرّ العُصور؛ فهو من أصحاب الطّبقة الأولى وله المعلّقة الأشهر في الأدب العربيّ، وقد اعتُنِيَ بديوانه عناية بالغة في القديم والحديث. أمّا موضوعاتُ شعرِه فتركّز على الوصف والطّبيعة والأطلال ووصفِ الفرس والصّيد والمرأة واللّهو، بالإضافة إلى الشّعر المقولِ في التأريخِ لمقتل أبيه والأحداث اللّاحقة.
طَرَفَةُ بْنُ العَبْدِ بْنِ سُفْيانَ بْنِ سَعْد بن مالكٍ، من قبيلة بكْرِ بن وائِلٍ، مِنْ أَشْهَرِ شُعَراء الجاهِلِيَّةِ، وَمِنْ أَصْحابِ المُعَلَّقاتِ، وُلِدَ فِي بادِيَةِ البَحْرَيْنِ، وَنَشَأَ يَتِيماً، وَامْتازَ بِالذَكاءِ وَالفِطْنَةِ مُنْذُ صِغَرِهِ، وَأَقْبَلَ فِي شَبابِهِ عَلَى حَياةِ اللَّهْوِ وَالمُجُونِ وَمُعاقَرَةِ الخَمْرِ، ثُمَّ وَفَدَ عَلَى عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ مَلِكِ الحَيْرَةِ مَعَ خالِهِ المُتَلَمِّسِ وَأَصْبَحَ مِنْ نُدَمائِهِ، وَقَدْ أَمَرَ عَمْرُو بْنُ هِنْدٍ عامِلَهُ فِي البَحْرَيْنِ أَنْ يَقْتُلَ طَرَفَةَ لِهَجاءٍ قالَهُ فِيهِ، فَقَتَلَهُ وَقَدْ بَلَغَ العِشْرِينَ وَقِيلَ سِتّاً وَعِشْرِينَ سَنَةً، كانَتْ وَفاتُهُ نَحْوَ سَنَةٍ (60 ق.هـ/ 565م).
زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى رَبِيعَةَ بْنِ رَباحٍ، المُزَنِيّ نَسَباً، الغَطَفانِيُّ نَشْأَةً، شاعِرٌ جاهِلِيٌّ مِنْ أَصْحابِ المُعَلَّقاتِ، وَمِنْ أَصْحابِ الطَبَّقَةِ الأُولَى بَيْنَ الشُّعَراءِ الجاهِلِيِّينَ، عاشَ فِي بَنِي غَطَفانَ وَعاصَرَ حَرْبَ داحِس وَالغَبْراءَ، وَكَتَبَ مُعَلَّقَتَهُ يَمْدَحُ هَرِمَ بْنَ سِنان وَالحارِثَ بْنَ عَوْفٍ اللَّذَيْنِ ساهَما فِي الصُّلْحِ وَإِنْهاءِ الحَرْبِ، تُوُفِّيَ حَوالَيْ سَنَةِ 13 قَبْلَ الهِجْرَةِ.
هو عروة بن الورد بن حابس العبسيّ، من قبيلةِ عبس المنحدرةِ من قبائلِ غطفان النزاريّة العدنانيّة، كُنيتُهُ أَبو نجد، شاعِرٌ وفارسٌ من رؤوسِ الصّعاليكِ في العصرِ الجاهليّ، وقد لُقِّبَ بأبي الصّعاليك لأنّه كان يحمي الصّعاليك ويقودُهم في الغارات، كما أنّه أحدُ المنظّرين الكبار للصّعلكة في الشّعر الجاهليّ؛ فقد نظّرَ لضرورةِ ثورةِ الصّعاليك على الأغنياء وإعادة علاقات التّوازن الاقتصاديّ في المجتمع. اشتُهِرَ بكرمِهِ وجودِهِ وحمايتِه للضّعفاء والملهوفين ودعوته إلى مكارم الأخلاق. تدورُ معظمُ قصائدُه حول الصّعلكة وضرورة الضّرب في الأرض بحثاً عن الرّزق، كما أنّ له قصائد في بعض الشؤون القبليّة في عصرِه.
السَّمَوْأَلُ بْنُ عُرَيضِ بْنِ عادِياءَ، مِنْ قَبِيلَةِ الأَزْدِ، شاعِرٌ جاهِلِيٌّ، جَعَلَهُ ابْنُ سَلامٍ عَلَى رَأْسِ طَبَقَةِ الشُّعَراءِ اليَهُود، لَهُ حِصْنٌ مَشْهُورٌ بِتَيْماءَ يُسَمَّى الأَبْلَق، عُرِفَ السَّمَوْأَلُ بِالوَفاءِ وَلَهُ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ حَوْلَ حِفْظِهِ لِدُرُوعِ امْرِئِ القَيْسِ، وَهُوَ مِنْ الشُّعَراءِ المُقِلِّينَ وَأَشْهَرُ شِعْرِهِ لامِيَّتُهُ الَّتِي مَطْلَعُها: (إِذا المَرْءُ لَمْ يَدْنُسْ مِنْ اللُّؤْمِ عِرْضُهُ فَــكُـــلُّ رِداءٍ يَــرْتَـــدِيـــهِ جَــمِــيــلُ) وَقَدْ نُسِبَتْ لِغَيْرِهِ، وَكانَتْ وَفاتُهُ نَحْوَ عامِ 65ق.هـ المُوافِقُ لعامِ 560م.
أَوسُ بنُ حَجَرٍ، مِن بَنِي تَمِيمٍ، شاعِرٌ جاهِلِيٌّ مُقَدَّمٌ، كانَ يُعَدُّ شاعِرَ مُضَرَ فِي الجاهِلِيَّةِ لَم يَتَقَدَّمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى نَشَأَ النّابِغَةُ وَزُهَيْرٌ فَأَخْمَلاهُ، وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ زُهَيْرِ بنِ أَبِي سُلْمَى، وَكانَ زُهَيْرٌ راوِيَتَهُ، وَقَدْ عَدَّهُ ابنُ سَلَّامٍ فِي طَبَقاتِهِ مِن شُعَراءِ الطَّبَقَةِ الثّانِيَةِ، وَكانَ أَوسٌ مُعاصِراً لِعَمْرِو بنِ هِندٍ، وَنادَمَ مُلُوكَ الحِيْرَةِ. عُمِّرَ طَوِيلاً وَتُوُفِّيَ نَحْوَ السَّنَةِ الثّانِيَةِ قَبْلَ الهِجْرَةِ.
عَمْرُو بْنُ كُلْثُومِ بنِ مالكِ بنِ عَتّابٍ، مِن قَبيلَةِ تَغْلِبَ بنِ وائِلٍ، وَأُمُّهُ لَيلى بِنتُ مُهلْهِلِ بنِ رَبيعةَ، شَاعِرٌ جَاهليٌّ مِن أَصحابِ المُعلَّقاتِ، وَهو مِنَ الشُّعراءِ المُقلِّينَ، سَادَ قَومَهُ وَهو فِي الخامِسةَ عشرةَ مِن عُمرهِ وكان فارِساً شُجاعاً وهو أحدُ فُتَّاكِ الجاهليّةِ، قَتلَ عَمرَو بنَ هِندٍ مَلِكِ الحِيرةِ فِي قِصّةٍ مَشْهُورَةٍ، وَماتَ وَقدْ بَلغَ مئةً وخَمسينَ عاماً، وكانت وفاتُه نحوَ سَنةِ 40ق.هـ/ 584م.
سَلامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ السَّعْدِيُّ، مِنْ قَبِيلَةِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَناةَ بِنْ تَمِيمٍ، شاعِرٌ جاهِلِيٌّ مِنْ المُقِلِّينَ وَأَحَدُ وُصّافِ الخَيْلِ، عَدَّهُ ابْنُ سَلّامٍ مِنْ فُحُولِ الشُعَراءِ ووضعَهُ فِي الطَّبَقَةِ السّابِعَةِ، وَكانَ سلامةُ مِنْ فُرْسانِ قَبِيلَةِ تَمِيمٍ، وَأَكْثَرُ شِعْرِهِ فِي الحَماسَةِ وَالفَخْرِ، وَهُوَ مِنْ شُعَراءِ الأَصْمَعِيّاتِ وَالمُفَضَّلِيّاتِ، تُوُفِّيَ بَعْدَ سَنَةِ 15ق.هـ المُوافَقَةِ لِسَنَةِ 608هـ.
هوَ عَبِيدُ بنُ الْأَبْرَصِ بنِ عوف بنِ جُشَمِ بنِ عامر بنِ مالكِ بنِ زهيرِ بنِ مالكِ بنِ الحارِثِ بن سعدِ بن ثعلبةَ بن دُودانَ بنِ أَسد. وقَبيلتُهُ هي قبيلةُ أسد المنحدرةِ من القبائلِ النّزاريّة العدنانيّة الشّماليّة، وهي قبيلةٌ استوطَنَتْ نجدًا في الجاهليّة في شرقي جبلَيْ طَيِّئ المعروفينِ بأجأ وسلمى. وتُشتَهَرُ قبيلةُ أسدِ في المصادرِ التّاريخيّةِ بأنّها القبيلةُ الّتي قتلَتْ الملكَ الكِنْدِيّ حُجْرَ بنَ الحارث الَّذي كانَ ملكاً عليها وعلى القبائلِ الأخرى المجاورة. وقد وثّقَ عبيدُ بن الأبرصِ في شعرِهِ معظمَ الأحداثِ المتعلّقة بقتلِ الملكِ؛ سواء تلك الّتي حصلَت قبلَ قتلِهِ أو بعدَ ذلك.
ويرى المستشرقُ سير تشارلز لَيال أنّ الأبرصَ هو لقبٌ لأبيهِ عَوْف وليسَ اسماً.
يُكْنَى بَأبي زِياد، ولا تُوجَد في المصادرِ المترجمةِ له أيّ أخبارٍ طويلة عن أبنائِهِ أو زوجاتِه. ويروي المحدِّثونَ من مثل الدّارقُطنيّ أنّ لعبيدِ بنِ الأبرصِ حفيداً من التّابعينَ اسمُهُ يَزِيدُ بنُ دِثار بنِ عَبيدِ بنِ الأبرَص؛ ما يعني أنّ لهُ ولداً عاصرَ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم اسمُهُ "دثار". كما يروي البُلاذِريّ في "أنسابِ الأشراف" أنّ له حفيداً من الفقهاءِ اسمُهُ "بدر بن دثار بن ربيعة بن عبيد الأبرص"، ما يعني أنّ له ولداً آخرَ اسمُهُ "ربيعة".
وفي ديوانِ عَبيد بعضُ المقطوعاتِ الّتي يُخاطبُ فيها زوجةً له تُسرِفُ في التشكّي من شيخوختِه، وهذا أسلوبٌ فنّيّ شهيرٌ في الشّعر يعتمدُ على خطابِ الزّوجاتِ بصفتِهِ لَبِنَةً فنّيّةً يدخُلُ منها الشّاعرُ إلى الفخرِ بنفسِهِ وتذكُّرِ أمجادِهِ في الشّباب، يقول:
تِلْكَ عِرسـي غَضْبَى تُرِيدُ زِيالِي أَلِبَـــيْــــنٍ تُـــرِيــــدُ أَمْ لِدَلالِ
إِنْ يَكُـنْ طِبُّكِ الْفِراقَ فَلا أَحْـ فِلُ أَنْ تَعْطِفِي صُدورَ الْجِمالِ
أَوْ يَكُنْ طِبُّكِ الدَّلالَ فَلَوْ فِي سالِفِ الدَّهْرِ واللَّيالِي الْخَوالِي
ذاكَ إِذْ أَنْتِ كَالْمَهاةِ وَإِذْ آ تِيكِ نَشْوانَ مُرْخِياً أَذْيالِي
فَدَعِي مَطَّ حاجِـبَـيْـكِ وَعِيِـشِي مَـعَــنــا بِـالرَّجــاءِ وَالتَّأْمـالِ
ويقولُ في قطعةٍ أخرى بالمعنى نفسِه:
أَلا عَتَبَتْ عَلَيَّ الْيَوْمَ عِرْسِي وَقَدْ هَبَّتْ بِلَيْلٍ تَشْتَكيني
فَقالَتْ لِي: كَبِرْتَ! فَقُلْتُ: حَقّاً لَقَدْ أَخْلَفْتُ حِيناً بَعْدَ حِينِ
إلى أن يقولَ لها:
فَإِنْ يَكُ فاتَنِي أَسَفاً شَبابِي وأَمْسَى الرَّأْسُ مِنِّي كَاللَّجِينِ
وكانَ اللَّهْوُ حالَفَني زَماناً فَأَضْحَى الْيَوْمَ مُنْقَطِعَ الْقَرينِ
فَقَدْ أَلِجُ الْخِباءَ عَلى الْعَذارى كَأَنَّ عُيونَهُنَّ عُيونُ عِينِ
ولا يُعرَفُ مِنْ أُسرتِهِ إلّا أختٌ لهُ يُقالُ لها "ماويّة"، وقد كانَت ترعى الغنمَ معه قُبيلَ قولِهِ الشّعر واشتهارِهِ في قومِه.
على الرّغم من أنّ عبيدَ بن الأبرص معدودٌ في الشُّعراءِ المعمَّرين، إلّا أنّ أخبارَهُ في كتبِ الأدبِ قليلةٌ جدّاً ولا تكادُ تكشفُ الشَّيءَ الكثيرَ عن حياتِهِ الشَّخصيّة. وقد أوردَ الرّواةُ أنّ عَبيدَ بن الأبرص ظلّ مُدّةً من الزَّمَنِ خاملَ الذِّكرِ في قبيلتِهِ ومجرّدَ راعٍ فقيرٍ مُعوِزٍ للمال، وكانَ يَرعى الأغنامَ بصحبةِ أختٍ له تُسمّى بـ"ماويّة"، إلى أن حدَثَ معَهُ حدَثٌ غيّرَ مجرى حياتِهِ وانتقلَ به من عالمِ الرّعيِ والفقرِ إلى عالمِ الشّعرِ والبروزِ في القبيلةِ بصفتِهِ أحدَ حكمائِها الكبار وشعرائِها المفلقين. ويتمثّلُ هذا الحدَثُ –كما رواه أبو الفرج الأصفهانيّ وغيرُه) في أنّ عبيداً أقبلَ معَ أختِهِ "ماويّة" ليُورِدَ غُنيمَةً (تصغيرُ غنمة) الماءَ، إلّا أنّ رجلاً من بني مالكِ بن ثعلبة اعترضَ طريقَهُ ومنعَه من ورودِ الماء، فذهبَ عَبيدٌ حزيناً مهموماً واستظلّ تحت شجراتٍ مع أختِه، فلمّا رآهما المالكيّ سخرَ منهما وأنشدَ أبياتاً مُسيئةً جاءَ فيها:
ذاكَ عَبِيدٌ قَدْ أَصابَ مَيّا يا لَيْتَهُ أَلْقَحَها صَبِيّا
فَحَمَلتْ فَوَضَعَتْ ضاوِيّا
وحينَ سمعَهُ عَبيد اشتدّ به الحُزن على مظلوميّته، ورفع يديه مبتهلاً بالدّعاء: "اللهمَّ إنّ فلاناً قد ظلمَنِي ورَماني بِالبُهتان، فأدلِني منه وانصرني عليه" ثمّ قال: "اللهمَّ ذاكَ يقولُ الشّعر". ثمّ نامَ عَبيدٌ فجاءَهُ بالمنامِ آتٍ بكُبَّةٍ من الشَّعَر ووضعَها في فمِهِ وقال له: "قل ما بدا لك، فأنتَ أشعرُ العرب وأمجد العرب". فقامَ عَبيدٌ وهُوَ يرتَجِز في هجاءِ بني مالك الّذين ينحدر منهم الرّجلُ الّذي ظلمَه:
أَيا بَني الزَّنْيَةِ ما غَرَّكُمْ فَلَكُمُ الْوَيْلُ بِسِرْبالِ حَجَرْ
ومن هذا الحدثِ –الّذي يبدو غريباً وشبيهاً بأحاديثِ الإلهام وعلاقتها بالإبداع- انطلقَ الشّعرُ على لسانِ عَبيد، ثمّ صارَ شاعرَ قبيلتِهِ الأوحدَ بلا منازع.
وليست القصّةُ السّالفةُ هي الوحيدةَ الّتي فيها جانبٌ من التّخييلِ الغريبِ في حياةِ عبيد وعلاقتِهِ الخاصّة بالشّعر؛ فقد روى مؤرّخو الأدب قصّةً أغربَ تدُلّ على كونِ الإلهام مصدراً من مصادرِ الشّعرِ لديه، وفحوى هذه القصّة أنّ عبيداً خرجَ في ركبٍ من بني أسد في الصّحراء، فمرُّوا على ثُعبانٍ يتمرّغ في التّرابِ من العطَش، فنزلَ عَبيدٌ وأسقى الثُّعبانَ بقيّةَ ماءٍ لم يكُن معَه سواها، حتّى إذا جاءَ الليلُ فرّت رواحلُ القومِ وهُم نيام، واستيقظوا ولم يجدوا شيئاً من الزّاد أو الماء وهمَّ كلُّ واحدٍ منهم بالبحثِ عن راحلتِه، وبينما كان عَبيدٌ يبحثُ وهو قانطٌ حتّى جاءَه هاتفٌ يقول:
يا أَيُّها السَّارِي الْمُضِلُّ مَذْهَبُهْ دُونَكَ هَذا الْبَكْرُ مِنّا فارْكَبُهْ
وَبَكْرُكَ الشَّارِدُ أَيْضاً فاجْنُبُهْ حَتَّى إِذا اللَّيْلُ تَجَلَّى غَيْهَبُهْ
فَحُطَّ عَنْهُ رَحْلَهُ وَسَيِّبُهْ
ومعنى الرَّجَزِ السّابقِ أنّ هذا الهاتفَ قد رَدَّ لعَبيدٍ بَكْرَهُ (وهو الفتيّ من الإبل) ومنحَهُ واحداً آخرَ زيادةً عليه. وحينَ سمع عبيدٌ الرّجَز قالَ: يا هذا المُخاطِب، نَشَدْتُكَ اللهَ إلّا أخبرتَني مَن أنت؟ فردّ الهاتف:
أَنا الشُّجاعُ الَّذي أَلْفَيْتَهُ رَمِضاً في قَفْرَةٍ بَيْنَ أَحْجارٍ وَأَعْقادِ
فَجُدْتَ بِالْماءِ لَمَّا ضَنَّ حامِلُهُ وَزِدْتَ فِيهِ وَلَمْ تَبْخَلْ بِإِنْكادِ
الْخَيْرُ يَبْقى وَإِنْ طالَ الزَّمانُ بِهِ والشَّرُّ أَخْبَثُ ما أَوْعَيْتَ مِنْ زادِ
فرَكِبَ عَبيدٌ بَكْرَهُ وجَنَبَ الْبَكْرَ الجديد وقَفَل عائداً إِلى أَهْلِهِ، ولم يعُدِ القومُ إلّا بعدَهُ بثلاثِ ليال!
وبعيداً عن هذه القصص الخياليّة الّتي أوردتها المصادرُ المترجمةُ لعَبيد لتُبَيِّنَ دَوْرَ الإلهام والهواتفِ والرُّؤى في تكوينِ شخصيّتِهِ الشّعريّة، فإنّ عَبيدَ بن الأبرصِ كان قد أصبحَ أحدَ وُجهاءِ قومِهِ (بني أسد) الكبارِ وشاعرَهُم المُبرَّز، وكان معَهُم في مشاهدِهِم وحروبِهم ينظمُ الشّعرَ في تخليدِ مآثرِهِم وهجاءِ خصومِهم، ونستطيعُ أن نلمسَ في شعرِهِ هذا الجانبَ في غيرِ قصيدة؛ من ذلك قصيدةٌ يذكرُ فيها انتصارَ قومِهِ على بني "جَديلة" فيقول:
أُنْبِئْتُ أَنَّ بَني جَديلةَ أَوْعَبوا نُفَراءَ مِنْ سَلْمَى لَنا وتَكَتَّبُوا
وَلَقَدْ جَرى لَهُمُ فَلَمْ يَتَـعَيَّفُوا تَـيْــسٌ قَـعِـيـدٌ كَالْوَلِيَّةِ أَعْضَـبُ
وَأَبُو الْفِراخِ عَلى خَشاشِ هَشِيمَةٍ مُتَـنَـكِّبـاً إِبْطَ الشَّمـائِلِ يَنْعَبُ
وَتَـجــاوَزُوا ذاكُمْ إِلَيْنـا كُلَّهُ عَـدْواً وَقَرْطَبَةً، فَلَمَّـا قَرَّبُـوا
طُعِـنُوا بِمُرَّانِ الْوَشِيجِ فَما تَرى خَلْفَ الْأَسِنَّةِ غَيْـرَ عِرْقٍ يَشـخُبُ
ويقُولُ في قَصيدَةٍ أُخرى مفتخراً بقبيلتِهِ:
إِنَّنا إِنَّما خُلِقْنا رُؤوساً مَنْ يُسَوِّي الرُّؤُوسَ بِالْأَذْنابِ؟!
لا نَقِي بِالْأَحْسابِ مالاً ولَكِن نَجْعَلُ الْمالَ جُنَّةَ الْأَحْسابِ
وَنَصُدُّ الْأَعْداءَ عَنَّا بِضَرْبٍ ذِي خِذامٍ، وَطَعْنُنا بِالْحِرابِ
وِمَن الجَلِيِّ في شِعْرِ عَبيد تَعَلُّقُهُ الْكَبيرُ بِقَبيلتِهِ وإخلاصُهُ منقطعُ النّظيرِ لها؛ ففي إحدى قصائِدِهِ يلُومُ إحدى القبائلِ لأنّها لم تستعِنْ بقبيلتِهِ في حربِها مع "غسّان"؛ فهو يرى أنّ قبيلتَهُ "بني أسد" قادرةٌ على مجابهةِ الغساسنةِ وردعِهم، يقول:
دَعا مَعاشِرَ فَاسْتَكَّتْ مَسامِعُهُمْ يا لَهْفَ نَفْسِيَ لَوْ تَدْعُو بَني أَسَدِ
ومِنْ مَظاهرِ تعلُّقِ عَبيدٍ بقومِهِ أنّ ديوانَهُ يَفيضُ بالمقطوعاتِ الّتي يرثي فيها قومَهُ ويتذكّرُ مآثرَ الموتى منهُم، يقولُ في رثاء بني سعدِ بن ثعلبة، وهم بطنٌ من بطون أسد ينحدرُ منهم الشّاعر:
لِمَنْ طَلَلٌ لَمْ تَعْفُ مِنْهُ الْمَذانِبُ فَجَنْبا حِبِرٍّ قَدْ تَعَفَّى فَواهِبُ
دِيارُ بَني سعدِ بنِ ثَعْلَبَةَ الْأُلى أَذاعَ بِهِمْ دَهْرٌ عَلى النَّاسِ رائِبُ
فَأَذْهَبَهُمْ ما أَذْهَبَ النَّاسَ قَبْلَهُمْ ضِراسُ الْحُروبِ وَالْمَنايا الْعَواقِبُ
أَمّا أَهَمُّ الْأَحْداثِ الّتي تناولَها عَبيدُ بنُ الأَبْرَصِ في شِعْرِهِ فَتتَمَثَّلُ في تأريخِهِ لعلاقةِ قومِهِ بملِكِ مملكةِ كندةَ الأخير الحارثِ بن حُجر والدِ الشّاعرِ امرئِ القيس؛ العلاقةِ الّتي انتهَتْ بمقتلِ الملكِ على يدِ أبناءِ القبيلة. ومن الواضحِ أنّ عبيدَ بن الأبرص لم يكُنْ مُجرّد شاهدٍ على الأحداث، بل كانَ شريكاً فيها ومنغمساً في تفاصيلِها؛ فمنُذُ أن كانت القبيلةُ خاضعةً لحكمِ بني كندةَ ومأتمرةً بأمرهم، كان عبيدُ بن الأبرص ممثّلاً لقومِهِ في هذه العلاقةِ الوُدّيّة ومتّصلاً بالبلاطِ الحاكم؛ لذلك نقعُ في ديوانِهِ على قصيدةٍ يختتمُها عَبيد بمدحِهِ لشُرَحبيلَ بن عمرو بن معاوية الجون بن حُجر آكل المُرار، وهو أحدُ أمراءُ كِندة، يقول:
وإِلى شُرَحْبيلَ الْهُمامِ بِنَصْرِهِ نَصْرَ الْأَشاءِ سَرِيُّهُ مُسْتَرْغَدُ
مَنْ سَيْبُهُ سَيْبُ الْفُراتِ وَحَمْلُهُ مُزْنُ الْجِبالِ وَنَيْلُهُ لا يَنْفَدُ
كذلك نجدُ في ديوانِهِ منافرةً شعريّةً بينَهُ وبينَ امرئِ القيس ابنِ الملك ملؤُها الصّفاءُ النّفسيّ والإخلاصُ للمعاني الفنّيّة، وهي منافرةٌ يبدؤُها عَبيدُ بنُ الأبرص بسؤالِ امرئ القيس: "كِيفَ مَعرِفَتُكَ بالأوابد؟" فيقولُ امرؤُ القيس: "ألقِ ما أحببت"، فيُلقي عبيد:
ما حَيَّةٌ مَيْتَةٌ أَحْيَتْ بِمِيتَتِها دَرْداءُ مَا أَنْبَتَتْ سِنّاً وَأَضْراسا
فَيُجيبُ امرؤُ القيس:
تِلْكَ الشَّعِيرَةُ تُسْقَى في سَنابلِها فَأَخْرَجَتْ بَعْدَ طُولِ الْمُكْثِ أَكْداسا
وتستمرُّ المنافرةُ الشّعريّةُ بينهما إلى نحوِ ستّةَ عشرَ بيتاً.
إلّا أنّ هذه العلاقةَ الوُدّيّة ما بينَ الكِنْدِيّينَ وبني أسد لم تستمرّ طويلاً؛ إِذ تمنَّعَ بنو أسدٍ عن دفعَ الإتاواتِ الّتي يفرضُها عليهم الملكُ حجرُ بنُ الحارث، وزادُوا في التّمنُّعِ فقتلُوا الرُّسُلَ الّذين بعثَ بهم إليهم، فما كانَ منه إلّا أن سارَ إليهم بجيشِهِ، وأخذَ سادتَهُم وأودعَهُم السّجن، وكانَ مِمّن أُودِعوا السّجنَ عبيدُ بنُ الأبرصُ بالإضافةِ إلى عمرو بن مسعود، ولم يكتفِ بذلك حتّى طردَ بني أسدٍ من مواطنِهِم وأقسمَ ألّا ينزلوا بعدُ في ملكِه. وقد استعطفَ عبيدُ بنُ الأبرصِ الملكَ في نفسِهِ وفي قومِهِ فأنشدَه:
يا عَيْـنُ فَابْـكِـي ما بَني أَسَـدٍ فَهُـمْ أَهْلُ النَّدامَةْ
أَهْلُ الْقِبـابِ الْحُمْرِ وَالنْـ نَـعَـمِ الْمُؤَبَّلِ وَالْمُدامَةْ
وَذَوي الْجِيـادِ الْجُرْدِ وَالـْ أَسَلِ الْمُثَـقَّفَـةِ الْمُقـامَةْ
حِــلّاً أَبَــيْـــتَ اللَّعْــنَ حِلْـ لاً إِنَّ فِـيــمــا قُـلْتَ آمَةْ
فِــي كُــلِّ وادٍ بَـيْــنَ يَـثـ رِبَ فَالْقُصورِ إِلى الْيَمامَةْ
تَـطْــرِيــبُ عـانٍ أَوْ صِـيــا حُ مُـحَــرَّقٍ أَوْ صَـوْتُ هـامَةْ
وَمَـنَــعْــتَهُــمْ نَجْـداً فَقَـدْ حَـلُّوا عَـلى وَجَـلٍ تِهـامَةْ
بَـرِمَــتْ بَـنُــو أَسَـدٍ كَمـا بَرِمَـتْ بِبَـيْضَتِها الْحَمامَةْ
جَـعَــلَتْ لَهـا عُـودَيْـنِ مِنْ نَـشَــمٍ وَآخَـرَ مِـنْ ثُمـامَةْ
إِمَّـا تَـرَكْــتَ تَـرَكْــتَ عَـفْـ واً أَوْ قَتَـلْتَ فَلا مَلامَةْ
أَنْـتَ الْمَـلِيــكُ عَـلَيْــهِــمُ وَهُمُ الْعَبِيدُ إِلى الْقِيامَةْ
ذَلُّوا لِسَـوْطِــكَ مِـثْــلَ مـا ذَلَّ الأُشَيْـقِرُ ذو الْخِزامَةْ
ورَقَّ حُجرُ بنُ الحارثِ لبني أسدٍ بعد هذه الأبياتِ وأعادَهُم إلى ديارِهِم، إلّا أنّهُ لم يمضِ الكثيرُ من الوقتِ حتّى سجَعَ أحدُ كُهّانِ القبيلةِ وأمرَهُم بقتلِ الملك، وبالفعلِ ثارُوا عليه وقتلُوه شرّ مقتلَة. وبعد هذه الحادثة، وفَدَ عبيدُ بن الأبرصِ على امرئِ القيس مع أشراف بني أسدٍ ليصلوا إلى صُلح، فأبى امرؤُ القيسِ إلّا الثّأر، وما كانَ لبني أسد أن يستعطفوه أكثرَ من ذلك، فأعدُّوا العدّةَ لحربِهِ كما أعدّ لهم، وانطلقَ لسانُ عبيد بن الأبرص يُدافعُ عن قبيلتِهِ ويتهدّد امرأ القيس، وكان ممّا قاله متهدّداً امرأ القيس ومنوّهاً بمفاخر قومِه:
يـا ذا الْمُخَـوِّفَـنـا بِقَـتْـ لِ أَبِـيـهِ إِذْلالاً وَحَيْـنـا
أَزَعَـمْــتَ أَنَّكَ قَـدْ قَـتَـــلـْ تَ سَراتَـنـا كَذِبـاً وَمَيْنا
هَــلَّا عَــلى حُـجْــرِ بْـنِ أُمْ مِ قَطـامِ تَبْـكِي لا عَلَيْنا
إِنَّــا إِذا عَــضَّ الثِّــقـــا فُ بِرَأْسِ صَعْـدَتِـنـا لَوَيْنا
نَـحْــمِـي حَقـيـقَـتَـنـا وَبَعْـ ضُ الْقَوْمِ يَسْقُطُ بَيْنَ بَيْنا
هَــلَّا سَــأَلْتَ جُـمــوعَ كِـنـْ دَةَ يَوْمَ وَلَّوْا أَيْنَ أَيْنـا
أَيَّــامَ نَــضْـــرِبُ هــامَهُــمْ بِبَـواتِـرٍ حَتَّـى انْحَـنَـيْنا
وَجُــمـــوعَ غَـسّــانَ الْمُـلو كَ أَتَيْـنَهُـمْ وَقَدِ انْطَوَينا
لُحُــقـــاً أَيـاطِــلُهُــنَّ قَـدْ عـالَجْــنَ أَسْفـاراً وَأَيْنـا
وحينَ دارَتِ الدّائرةُ لبني أسدٍ على امرئِ القيس، خلّدَ عبيدُ بنُ الأبرصِ انتصاراتِ قبيلتِه، وسخرَ من امرئ القيس وذكَّرَهُ بلهوِهِ وشُربِه، يقول:
سَقَيْنا امْرَأَ الْقَيْسِ بْنَ حُجْرِ بْنِ حارِثٍ كُـؤُوسَ الشَّـجــا حَـتَّــى تَعَـوَّدَ بِالْقَهْـرِ
وَأَلْهـــاهُ شُـــرْبٌ نـــاعِــــمٌ وَقُــراقِـــرٌ وَأَعْـيــاهُ ثَـأْرٌ كـانَ يَـطْـلُبُ فِي حُجْـرِ
وَذاكَ لَعَـمْــرِي كـانَ أَسْـهَــلَ مَـشْــرَعــاً عَـلَيْــهِ مِنَ الْبِيـضِ الصَّوارِمِ وَالسُّمْـرِ
وبالعودَةِ إلى المصادرِ التّاريخيّة، نعرفُ أنّ بني أسدٍ بعدَ تخلُّصِهِم من حُكمِ ملوكِ كِنْدَةَ قد اندمَجُوا تِلقائيّاً في حُكْمِ المناذرة وملكِهم الشّهير المنذر بن ماءِ السّماء، وبرغمِ ذلك لا نلمسُ في شعر عبيدِ بن الأبرص أيّ احتفاءٍ بمُلك المناذرة، كما لا نلمسُ اتّصالاً يقومُ على المديحِ في شعرِه للمنذرِ بن ماء السّماء الّذي مدحَهُ غيرُ شاعرٍ من الشّعراء الجاهليّين.
وفي ظلّ حكم المناذرة، لاقى عَبيدُ بن الأبرص مصيرَهُ بالقتلِ على يدِ المنذرِ بن ماءِ السّماء، وتتضاربُ الرّواياتُ في طريقةِ مقتلِهِ، لكنّها جميعها تُشيرُ إلى أنّ سبب قتلِهِ يعُودُ إلى عهدٍ كان المنذر بن ماء السماء قد قطَعَه على نفسِه؛ وهو أن يجعلَ له في السّنةِ يومين؛ يومَ نعيمٍ ويومَ بُؤس، فإذا ظهرَ عليه أحدٌ في يومِ نعيمِهِ أكرمَه بمئةٍ من الإبل، وإن ظهرَ في يومِ بُؤسِهِ أَمَرَ بهِ فقتَلَه، وكان حظُّ عبيد بن الأبرصِ أن يزورَ المنذرَ في يومِ بؤسِهِ فقُتِل!
أمّا حادثةُ مقتلِهِ فقد وردَت في عدّةِ روايات؛ منها أنّ عَبيداً طلعَ على المنذرِ في يومِ بُؤسِهِ، فقال له المنذر: هلّا كان الذّبحُ لغيرِكَ يا عَبيد؟ فقال عَبيد: أتتكَ بحائنٍ رجلاه، فذهبَ قولُه مثلاً، فقال له المنذر: أنشدني، فقد كان شعرُك يعجبُني، فأجابَ عبيد: حالَ الجريضُ دونَ القريض وبلغَ الحِزامُ الطُّبيَين، فذهبَ قولُهُ مثلاً، فقال له المنذر: أسمِعني، فقال عَبيد: المنايا على الحوايا، فأرسلَها مثلاً، وظلّ عبيدٌ يُرسلُ الأمثالَ إلى أن قال له المنذر: أنشدني قولَك: أَقفرَ من أهلِهِ مَلْحوبُ، فقال عبيد:
أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ عَبيدُ فَلَيْسَ يُبْدي وَلا يُعيدُ
عَنَتْ لَهُ عَنَّةٌ نَكودٌ وَحانَ مِنْها لَهُ وُرودُ
فغضبَ المنذرُ وقال: يا عَبيد، ويحك، أنشدني قبل أن أذبحَك، فقال عبيد:
واللهِ إنْ مِتُّ لَما ضَرَّنِي وَإِنْ أَعِشْ ما عشتُ في واحِدَةْ
فلمّا يئسَ المنذرُ منه خيّرَهُ بطريقةِ قتلِه، فاختارَ عَبيدٌ أن يَسقيَهُ الخمر، حتّى إذا أخذت منه وطابت نفسُهُ بها فَصَدُوا أوردتَه فقُتل.
ويذكرُ الرّواةُ أنّ عبيدَ بن الأبرص قد عُمِّرَ طَويلاً قبل أن يُقتَل، إلى الحدّ الّذي ذهبَ فيه بعضُهُم إلى أنّه عاشَ ثلاثمئة سنة! وهذا رقمٌ مبالَغٌ فيه بالطّبع، لكنّ الأكيد أنّه كان شاعراً معمّراً، ويدلّ على هذا شعرُهُ المليءُ بلوحاتِ وصف الشّيبِ والشّيخوخة والسّأم من طول البقاء، من ذلك قولُه يصفُ إدراكَهُ للأمم القديمة:
أَدْرَكْتُ أَوَّلَ مُلْكِ نَصْرٍ ناشِئاً وَبِناءَ سِنْدادٍ وَكانَ أُبِيدا
وَطَلَبْتُ ذا الْقَرْنَيْنِ حَتَّى فاتَنِي رَكْضاً وَكِدْتُ بِأَنْ أَرى داؤُودا
ما تَبْتَغي مِنْ بَعْدِ هَذا عِيشَةً إِلّا الْخُلودَ وَلَنْ تَنالَ خُلودَا
يختلفُ الباحثونَ في تحديدِ سنةِ وفاةِ عَبيدِ بنِ الأبرص؛ إِذ يَرى عمر فرّوخ أنّهُ توفّي نحو سنةِ 77ق.ه الموافقة ل545م، فيما يرجّح المستشرقُ تشارلز ليال محقّق الدّيوان أنّه توفّيَ قبل سنةِ 70ق.ه الموافقة لسنة 554م اعتماداً على السنة الّتي قُتِلَ فيها المنذرُ بن ماء السّماء، ويرى جواد علي –معتمداً على روايةٍ تقرّبُ بين عبيد بن الأبرص وعبد المطّلب بن هاشم- أنّ وفاته كانت نحو سنة 66ق.ه الموافقة لسنة 558م، ويتطرّفُ بعض الباحثين في تأخير تاريخِ وفاتِهِ، من مثل الزِّرِكليّ الّذي حدّدَها ب25 ق.ه الموافقة ل600م. ويرى فريق الموسوعة الشّعريّة أنّ التّاريخ الأدقّ لوفاةِ عبيد هو الّذي حدّده عمر فرّوخ 77ق.ه/545م؛ لأنّه لا يُعقَل أن يكون قد تُوفّي بعد وفاةِ قاتلِه المنذر بن ماء السّماء، كما أنّ من البعيد أن تتوافقَ سنةُ وفاةِ المنذرِ مع سنةِ وفاةِ عبيد؛ لذلك يُعطينا التّاريخ الّذي حدّده عمر فرّوخ مدّةً زمنيّة جيّدة بين مقتلِ عبيد ووفاةِ المنذر بن ماء السّماء.
يُعَدُّ عَبيدُ بن الأبرصِ من شعراء الطّبقة الرّابعة في تصنيفِ ابنِ سلّام الجُمَحِيّ، وقد قالَ فيهِ ابنُ سَلّام: "عَبيدُ بنُ الأبرص قديمٌ عظيمُ الذِّكر، عظيمُ الشُّهرَة، وشعرُهُ مضطربٌ ذاهب".
يُعَدُّ عَبيدُ بنُ الأبرص من أصحاب المعلّقاتِ في نظرِ مجموعةٍ من النقّاد القدامى؛ كابنِ قتيبةَ الدَّينَوَرِيّ الّذي عدَّ قصيدتَه:
أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحوبُ فَالْقُطَّبِيَّاتُ فَالذَّنُوبُ
من القصائدِ السّبع. وكذلك فعلَ التّبريزيّ الّذي أضافَ قصيدة عبيد بن الأبرص إلى المعلّقات في كتابه الشّهير.
عَدَّ أبو زيد القرشيّ قصيدتَه السّابقةَ في المُجَمْهَرات ولم يعُدَّها في المعلّقات.
عندما سُئِلَ الشّاعرُ الحطيئة عن أشعرِ النّاس تمثّل بقولِ عبيد:
مَنْ يَسْأَلِ النّاسَ يَحْرِموهُ وَسائلُ اللهِ لا يَخيبُ
فضّلَ الشّاعرُ ذو الرُّمَّة عَبيدَ بن الأبرص على امرئِ القيس في وصفِ العواصفِ والأمطار.
ذكَرَ الفرزدقُ عبيدَ بن الأبرص ضمن الشّعراء الجاهليّين الكبار الّذين ورثَ عنهمُ الشّعر فقال:
وَأَخُو بَني أَسَدٍ عَبِيدٌ إِذْ مَضَى وَأَبُو دُؤادٍ قَوْلُهُ يُتَنَحَّلُ
وَقَدْ يُخْطِئُ الرَّأْيَ امْرُؤٌ وَهْوَ حازِمٌ كَما اخْتَلَّ فِي وَزْنِ الْقَريضِ عَبِيدُ
وقيلَ في معلّقتِهِ: "لكثرةِ ما دخلَها من الزّحافِ والقطع كادت ألّا تكونَ شعراً"، وقال ابنُ كناسة أحدُ رواةِ ديوانه: "لم أرَ أحداً يُنْشِدُ هذِهِ الْقَصيدَةَ عَلى إِقامَةِ الْعَروض".
اختارَ لهُ الأخفشُ في كتابِهِ "الاختيارين" قصيدةً ليست في الأصمعيّات ولا المفضّليّات، ومطلعُها:
لَيْسَ رَسْمٌ عَلى الدَّمِينِ بِبالِ فِلِوى ذِرْوَةٍ فَجَنْبَيْ أُثالِ
نِعْمَ الْمُجيرُ وَخَيْرُ أُسْرَتِهِ لِلضَّيْفِ يَعْشُو نارَهُ فُطَرَةْ
اختارَ له البحتريُّ في حماستِهِ ثلاثةَ اختيارات هي: الاختيار 935، والاختيار 990، والاختيار 1224.
اختارَ له البصريّ في حماستِهِ اختيارين هما: الاختيار 182، والاختيار 837.
اختارَ له ابنُ الشّجريّ مجموعةً من الاختيارات الشّعريّة.
اختارَ له محمد بن المبارك مجموعةً جيّدةً من الاختيارات الشّعريّة في كتابه "منتهى الطلب من أشعار العرب".
اختار له محمد مهدي الجواهريّ مجموعةً جيّدةً من الاختيارات الشّعريّة في كتابه "الجمهرة".
اختارَ له خليل حاوي ومطاع صفدي مجموعة جيّدةً من الاختيارات الشّعريّة في كتابهما "موسوعة الشّعر العربيّ".
"وَعَبيدٌ شاعرٌ عَظيمُ الشُّهْرَةِ قَدِيمُ الذِّكْر، شِعْرُهُ مُضْطَرِبٌ ذاهِب". ابنُ سَلّام الْجُمَحِيّ.
"عَبيد شاعرٌ فَحْلٌ فَصِيح". أَبو عَمْرو الشَّيْبانِيّ.
"أَشْعَرُ العَرَبِ مِنَ الْجاهِلِيِّينَ امرُؤُ القَيْس وزُهَيرٌ وعَبيدُ بنُ الْأَبْرَص". مُعاذ الهَرَّاء.
"وليس لدينا أخبار عن تفاصيلِ حياةِ عَبيد، غير ما جاء في قصائدِه، ومن الواضح أنّ الأخبار الّتي تُروى عنهُ خُرافيّة، ولا تحملُ طابعُ الصِّدق". المستشرق تشارلز ليال – محقّق النّشرة الأولى من الدّيوان.
"ويظهر من معظم قصائد عبيد أنّها من تأليفِ رجلٍ متقدِّم السّنّ، ينظر إلى شباب يعدّه من أجملِ المراحلِ الّتي قامَ فيها بِجلائِلِ الأعمال". المستشرق تشارلز ليال – محقّق النّشرة الأولى من الدّيوان.
"إنَّ عَبِيدَ بنَ الْأَبْرَص يُمَثِّلُ قِمَّةً مِنْ مَدارِسِ الشِّعْرِ الجاهِلِيّ". المستشرق غوستاف غرنباوم.
"إنّنا لنشعرُ ونحنُ نقرأُ هذا الشِّعرَ لعبيد كأنّه قد أدركَ الحقيقةَ ونفدَ إِلى اللُّبِّ من خلالِ تجاربِهِ الشّخصيّةِ وسعةِ اطّلاعِهِ على تاريخِ الأمم الماضيةِ وأخبارها". النّاقد أحمد موسى الجاسم – صاحب كتاب "عبيد بن الأبرص-دراسة فنّيّة-".