
جميع الحقوق محفوظة © الشعر العربي 2025
جميع الحقوق محفوظة © الشعر العربي 2025
جميع الحقوق محفوظة © الشعر العربي 2025
عمرُو بنُ مَعْدي كَرِبَ الزُّبَيْدِيّ، أبو ثَور، من قبيلةِ زُبَيد المِذحجيّة القحطانيّة اليمانيّة. شاعرٌ مخضرمٌ يُعَدُّ من أشهرِ الفرسانِ العرب، ولد نحو 75ق.ه/549م، وتُوفّيَ في 21ه/642م، عاشَ الشّطرَ الأكبرَ من حياتِهِ في الجاهليّة، وكانَ فيها رئيساً لقومِهِ بني "زُبَيد" بعد مقتلِ أخيهِ "عبد الله"، وقد واجهَ في الجاهليّة العديد من القبائل العربيّة مع قومِهِ؛ من مثل بني عامر وبني سُلَيم وبني مازِن الّذين قتلوا أخاه عبد الله. أسلمَ سنة 9هـ في عامِ الوفود، ثمّ ارتدّ عن الإسلام وانضمّ إلى الأسود العَنْسِيّ، لكن سلّم نفسَهُ إلى جيشِ أبي بكر بعد ذلك وعادَ للإسلام، وشاركَ في الفتوحاتِ الإسلاميّة الممتدّة وشهد أهمّ المعارك؛ من مثل معركة اليرموك ومعركة القادسيّة الّتي أبلى فيها بلاءً حسناً، ومعركةِ نهاوند. وتوفّيَ بعد معركة نهاوند سنة 21هـ في موضعٍ يُقالُ له "رُوذة" من أرضِ فارس. اشتُهِرَ بفروسيّتِهِ البالغةِ وحُبِّهِ للطَّعام، ويدورُ أغلبُ شعرِهِ في الحماسةِ ووصفِ الحربِ والمعاركِ والفخرِ بالنّفسِ وبالقبيلة.
عَمْرُو بْنُ الحارِثِ بْنِ مُنَبِّهٍ النِهْمِيّ، اشْتُهِرَ بِاِبْنِ بَرّاقَةَ نِسْبَةً إِلَى أُمِّهِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلَةِ نِهْمِ الهَمْدانِيَّةِ، مِنْ الشُّعَراءِ الصَّعالِيكِ فِي الجاهِلِيَّةِ، وَقَدْ عُرفَ بِالشَّجاعَةِ وَالفَتْكِ وَكانَ مِنْ عَدّائِي العَرَبِ، أَدْرَكَ الإِسْلامَ فَأَسْلَمَ وَوَفَدَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ الشُّعَراءِ المُقِلِّينَ، أَشْهَرُ شِعْرِهِ مِيمِيَّتُهُ الَّتِي مَطْلَعُها: (تَـقُـولُ سُلَيْـمَـى لا تَعَـرَّض لِتَلْفَـةٍ وَلَيْلُكَ عَنْ لَيْلِ الصَّعالِيـكِ نائِمُ)، تُوفِّيَ بعدَ السَّنةِ الحادية عشرةَ للهِجرةِ.
الحُطَيْئَةُ هُوَ جَرْولُ بنُ أَوسٍ العَبْسِيُّ، شاعِرٌ مُخَضْرَمٌ عاشَ فِي الجاهِلِيَّةِ وَأَدْرَكَ الإِسْلامَ، وَهُوَ راوِيَةُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى، وَعدّهُ ابنُ سلّامٍ فِي الطَبَقَةِ الثانِيَةِ في طبقاتِ فُحولِ الشُّعراءِ، وكانَ مِنْ أَكْثَرِ الشُّعَراءِ تَكَسُّباً بِشِعْرِهِ، وَهُوَ مِنْ أَهْجَى الشُّعَراءِ القُدامَى؛ فقد هَجا أُمَّهُ وَأَباهُ وَهَجاً نَفْسَهُ، وَقَدْ سَجَنَهُ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُ لِهِجائِهِ الزِّبرِقانِ بنِ بَدْرٍ، أَدْرَكَ خِلافَةَ مُعاوِيَةَ بنَ أبيِ سُفْيانَ، وَتُوُفِّيَ نَحْوَ سَنَةِ 45هـ/ 665م.
قُطْبَةُ بْنُ أَوْسٍ، وَيُلَقَّبُ بِالحادِرَةِ أَوْ الحُوَيْدِرَةِ وَمَعْناهُ الضَّخْمِ، مِنْ قَبِيلَةِ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدٍ، وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ غَطْفانَ، شاعِرٌ جاهِلِيٌّ مُقِلٌّ، أَشْهَرُ قَصائِدِهِ قصيدتُهُ العَيْنِيَّةُ ومَطْلَعُها (بَـكَــرَتْ سُـمَــيَّةُ غُدْوَةً فَتَـمَـتَّعِ / وَغَـدَتْ غُـدُوَّ مُـفــارِقٍ لَمْ يَرْجِـعِ) وَقَدْ اخْتارَها المُفَضَّلُ الضَّبِيَّ ضِمْنَ المُفَضَّلِيّاتِ، عُرِفَ بِمُهاجاتِهِ مَعَ زَبّانَ بْنِ سَيّار الفَزارِيّ، وَلا يُعْرِفُ تارِيخُ وَفاتِهِ إِلّا أَنَّ أَخْبارَهُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ عاشَ فِي أَواخِرِ العَصْرِ الجاهِلِيِّ.
الخَنْساءُ هِيَ تُماضِرُ بِنْتُ عَمرٍو بنِ الحارِثِ بنِ الشَّرِيدِ، مِن بَنِي سُلَيمٍ، شاعِرَةٌ مُخَضْرَمَةٌ، عاشَتْ فِي الجاهِلِيَّةِ وَأَدْرَكَتْ الإِسْلامَ فَأَسْلَمَتْ، وَوَفَدَتْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللّٰهُ عَليهِ وَسَلَّمَ مع قومِها، فَكانَ الرسول يَسْتَنْشِدُها وَيُعْجِبُهُ شِعْرُها، اشْتُهِرَتْ بِرِثائِها لِأَخَوَيْها صَخْرٍ وَمُعاوِيَةَ اللَّذَيْنِ قُتِلا فِي الجاهِلِيَّةِ، وَتُعَدُّ الخَنْساءُ أَشْهَرَ شاعِراتِ العَرَبِ، تُوُفِّيَتْ نَحْوَ عامِ 24ه/645م.
لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مالِكِ بْنِ جَعْفَرَ بْنِ كِلابٍ، مِنْ قَبِيلَةِ عامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، مِنْ شُعَراءِ الجاهِلِيَّةِ وَفُرْسانِهِمْ وَأَشْرافِهِمْ، وَكانَ كَرِيماً نَذَرَ أَلّا تَهُبَّ الصَّبا حَتَّى أَطْعَمَ وَنَحَرَ، أَدْرَكَ الإِسْلامَ فَأَسْلَمَ، وَتَرَكَ قَوْلَ الشِّعْرِ بَعْدَ إِسْلامِهِ إِلّا بَيْتاً واحِداً، وَهُوَ مِنْ شُعَراءِ المُعَلَّقاتِ وَأَحَدِ المُعَمِّرِينَ عاشَ مِئَةً وَخَمْساً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَ ذلِكَ، سَكَنُ الكُوفَةَ بَعْدَ إِسْلامِهِ وَتُوُفِّيَ فِيها حَوالَيْ سَنَةِ 41 هـ المُوافِقَةِ لِسَنَةِ 661م.
حَسّانُ بْنُ ثابِتٍ الخَزْرَجِيُّ الأَنْصارِيُّ، صَحابِيٌّ جَلِيلٌ وَشاعِرٌ مُخَضْرَمٌ عاشَ فِي الجاهِلِيَّةِ وَأسلم بعدَ دُخولِ الرّسولِ صلّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ إلى المَدينَةِ، وحظي حسانُ بِمنزلةٍ كَبيرةٍ فِي الإسلامِ؛ حيثُ كانَ شاعِرَ الرَسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدافِعُ عَنْهُ وَيَهْجُو شُعَراءَ المُشْرِكِينَ، وَكانَ الرَّسُولُ يَقُولُ لَهُ: "اهْجُهُمْ وَرُوحُ القُدُسِ مَعَكَ"، عُرِفَ فِي الجاهِلِيَّةِ بِمَدْحِهِ لِلغَساسِنَةِ وَالمَناذِرَةِ، وتُوُفِّيَ فِي خِلافَةِ مُعاوِيَةَ وَكانَ قَدْ عَمِيَ فِي آخِرِ حَياتِهِ، وَكانَ ذلِكَ فِي حَوالَيْ سَنَةِ 54هـ/674م.
دُرَيدُ بْنُ الصِمَّةِ بْنِ الحارِثِ بْنِ مُعاوِيَةَ، يَعُودُ نَسَبُهُ إِلَى هَوازِنَ مِنْ قَيْس عَيْلانَ، كانَ سَيِّدَ قَبيلَتِهِ بَني جُشَمَ وَشَاعِرَهُم وَفارِسَهُم، وَقد خاضَ مِئَةَ غَزْوَةٍ ما أخفقَ بِواحِدَةٍ مِنْها، وَفَقَدَ إِخْوَتَهُ الأَرْبَعَةَ فِي وَقْعاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَرْثاهُمْ، وَأَشْهَرُهُمْ عَبْدُ اللهِ الَّذِي رَثاهُ بِقَصِيدَتِهِ الدالِيَةِ (أَرَثَّ جَـدِيــدُ الْحَـبْــلِ مِنْ أُمِّ مَعْـبَـدِ / لِعَـــاقِــبَــةٍ أم أَخْـلَفَــتْ كُـلَّ مَـوْعِــدِ) وَعُمِّرَ دُرَيْدُ طَوِيلاً فَقِيلَ إِنَّهُ عاشَ مِئَتَيْ عامٍ أَوْ نَحْوَ ذلِكَ، وَقُتِلَ فِي مَعْرَكَةِ حُنَينٍ إِذْ أَخْرَجَهُ قَوْمُهُ تَيَمُّناً بِهِ، فَماتَ عَلَى شِرْكِهِ، وَكانَ ذلِكَ فِي السَّنَةِ الثّامِنَةِ لِلهِجْرَةِ.
قَيْسُ بنُ الخَطِيمِ، مِن قَبِيلَةِ الأَوْسِ، شاعِرٌ مُخَضْرَمٌ أَدْرَكَ الإِسْلامَ وَلَمْ يُسْلِمْ، نَشَأَ يَتِيماً إِذْ قُتِلَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَلَمّا بَلَغَ أَخَذَ بِثَأْرَيْهِما، وَكانَ فارِساً شُجاعاً شَهِدَ عَدَداً مِنْ الوَقائِعِ بَيْنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ، وَأَكْثَرَ شِعْرِهِ فِي يَوْمِ البُعاثِ، وَهُوَ مِنْ الشُّعَراءِ المُقَدَّمِينَ فِي الجاهِلِيَّةِ قَدَّمَهُ بَعْضُ الرُّواةِ وَعُلَماءُ الشِّعْرِ عَلَى حَسّانَ بنِ ثابِتٍ، وَهُوَ مِن طَبَقَةِ شُعَراءِ القُرَى فِي طَبَقاتِ ابنِ سَلامٍ. وقد قَتَلَهُ قَوْمٌ مِنْ الخَزْرَجِ بَعْدَ يَوْمِ البُعاثِ فِي حَوالَيْ السَّنَةِ الثّانِيَةِ قَبْلَ الهِجْرَةِ.
خِداشُ بنُ زُهيرٍ، مِن قَبيلَةِ عامِرِ بنِ صَعصعَةَ، شاعِرٌ جاهِلِيٌّ مِن أشرافِ قومِهِ وفُرسانِهم، شَهدَ حربَ الفِجارِ ولهُ فِيها أخبارٌ، وهو شاعِرٌ مُجيدٌ مُتقدِّمٌ، عَدّهُ أَبو عَمرِو بنُ العلاءِ أَشْعرَ مِن لَبيدٍ، وَهوَ مِن شُعراءِ الطَّبقةِ الخامِسَةِ عندَ ابنِ سَلَّامٍ فِي طَبقاتِ فُحولِ الشُّعراءِ.
هوَ عمرُو بنُ مَعْدِي كَرِبَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ عُصمِ بنِ عَمروِ بنِ زُبَيد الأصغر. وزُبَيدُ الأصغرُ هو منبِّهُ بنُ ربيعةَ بنِ سلمةَ بنِ مازنِ بنِ ربيعةِ بنِ زُبيد الأكبر. وزُبَيدُ الأكمبرُ هوَ منبِّهُ بنُ صعبِ بنِ سعدِ العشيرةِ بنِ مَذْحِج.
وأمُّهُ هي أسيلةُ بنتُ قيس، من بني عِجل. وقيلَ: هي سلمى بنت الحارث، من بني مرّة. وقيل هي امرأةٌ من بَني جَرْم كانت تُعَدُّ في النّساءِ المُنْجِبات.
ومعنى مَعْدِي كَرِب (ويجوزُ أن يُكتبَ متّصلاً: معديكَرِب) مشتقٌّ من قولِهم "عداهُ الكَرب"، وقيل إنّها كلمةٌ حِميريّة معناها "وجهُ الفلاح"، وأيّدتِ الأبحاثُ الحديثةُ هذا الرّأيَ في قراءةِ كلماتِ اللغةِ الحميريّةِ وكشفِ معانيها.
أمّا قَبيلتُهُ فهي قبيلةُ زُبَيد المنحدرةُ من قبائلِ مَذْحِج القحطانيّة اليمانيّة، ومنازلُها تمتدُّ من نجرانَ جنوباً إلى وادي الدّواسرِ شمالاً. ولهذِهِ القبيلةِ أيامٌ مشهورةٌ قاتلت فيها إلى جانبِ قبائلِ مَذْحِج الأخرى ضدّ قبائلِ العربِ القيسيّة؛ من مثلِ يومِ فيف الرّيح الّذي قاتلت فيهِ بني عامر، ويومِ تثليثَ ويومِ الغُمَير اللَّذينِ قاتلت فيهما مَذْحِجُ بني سُلَيم، وغيرها من الأيّام الّتي وثّقَها عمرُو بنُ معدي كَرِب في شعرِه، فضلاً عن الأيامِ الّتي قاتلت فيها قبيلةُ زُبَيد قبائلَ أخرى من مَذْحِج؛ من مثلِ بني مازن وبني الحارثِ بن كعب وبني مراد وغيرِهم.
أمّا كُنيتُهُ فهيَ "أَبو ثَور"، وقيلَ إنّ هذه الكنية تدلُّ على السّيادةِ وسموِّ المنزلة؛ لأنّ من معاني الثّورِ: السَّيِّدُ.
وينحدرُ عمرُو بنُ معدي كَرِبَ من أبٍ كانت لهُ الرِّئاسةُ على قبيلةِ زُبَيد، ثُمَّ لما تُوفِّيَ ورثَ السِّيادَةَ أخوهُ عبدُ اللهِ بنُ عمرِو بن معدي كَرِب، ثُمَّ لمّا قُتِلَ على يدِ بني مازن آلتِ السّيادةُ إلى عمرِو، وقد خاضَ عمرُو معاركَ كثيرةً مع بني مازن ثأراً لأخيه سنذكرُها في البابِ الخاصِّ بحياتِه.
ولعمرِو بنِ معدي كَرِب أختان يتردّدُ اسماهُما في المصادر؛ كبشةُ الّتي كانت متزوّجةً في بني الحارثِ بن كعب، وريحانةُ الّتي سباها الصِّمّةُ الجُشَمِيّ وبكاها عمرُو بن معدي كَرِب في شعرِه، ومن ذلك قولُه:
أَمِنْ رَيحانَةَ الدَّاعِي السَّميعُ يُؤرِّقُـنـي وَأَصْحـابـي هُجُـوعُ؟
سَباها الصِّمَّةُ الْجُشَميُّ غَصْباً كَأَنَّ بَياضَ غُرَّتِها صَديعُ
وقيل إنّها أمُّ دُريدِ بن الصِّمَّة الشاعرِ الشّهير، وعلى ذلكَ يكونُ عمرُو خالاً لدُريد، إلّا أنّ بعضَ الباحثينَ المعاصرينَ شكّك في أن تكونَ رَيحانةُ أمّاً لدُرَيد.
وتُجمعُ المصادرُ المترجمةُ لعمرِو بن معدي كَرِب أنّهُ خالٌ لقيسِ بن المكشوح المُرادِيّ، وهو أحدُ ساداتِ قبيلةِ مَذْحِج في الجاهليةِ والإسلام، وقد قادَ قومَهُ في القادسيّة واليرموك. لكن لم تذكُرِ المصادرُ مَن تكونُ أمُّ قيسِ من أخواتِ عمرِو.
وابنُ خالةِ عمرِو بن معدي كَرِب هو الزِّبرقانُ بنُ بدر التّميميّ صاحب القصّة المشهورة مع الحطيئة.
وتذكرُ المصادرُ زوجةً لعمرِو بن معدي كَرِب من بني جُعْف لم يرِد اسمُها، لكن وردَت لها أبياتٌ في رثاءِ عمرو بن معدي كَرِب تقولُ فيها:
لَقَدْ غَادَرَ الرَّكْبُ الَّذينَ تَحمَّلُوا بِرُوْذَةَ شَخْصاً لا ضَعِيفاً وَلَا غَمْرا
فَـقُـلْ لِزُبَيْـدٍ بَلْ لِمَذْحِـجَ كُلِّهـا فَقَـدْتُـمْ أَبا ثَورٍ سِنَانَكُمُ عَمْرا
فَإِنْ تَجْـزَعُـوا لا يُغْنِ ذَلِكَ عَنْكُمُ وَلَكِنْ سَلُوا الرَّحْمنَ يُعْقِبْكُمُ صَبْرا
وتذكرُ المصادرُ أنّ لعمرٍو ولداً اسمُهُ "الخُزَز" كان قد أنجبَهُ من امرأةٍ اسمُها "حُبّى الكنديّة" كانَ قد قتلَ زوجَها ووقعَ عليها، ثمّ قال لها: إنّي لم أقع على امرأة قطّ إلّا حملت، ولا أراكِ إلّا قد حملتِ، فإن رُزقتِ غُلاماً فسمِّيهِ الخُزَز، وإن رُزِقتِ جاريةً فسمّيها عِكْرِشَة. فلمّا كبر الغلامُ صدفَ أن قاتلَ أباهُ في معركةٍ فصرَعَه، وحينَ همّ بقتلِهِ سأله عن اسمِهِ فقال إنّه عمرُو بن معديكرِب، فابتهجَ الغلامُ للقائِهِ بأبيه، إلّا أنّ الولدَ عادَ فقاتلَ أباهُ في معاركِ قومِهِ، فقتلَهُ عمرُو دونَ أن يعرفَه وقال في النّدمِ عليه:
يا أَسَفـا عَلَى خُزَزِ بْنِ عَمْرٍو وَيا نَدَمـا عَلَيهِ وَلَهْفَ نَفْسِي
بُـنَــيٌّ كَانَ لِي عَضُـداً وَذِكْراً إِذا غُيِّبـْتُ في كَفَـنـي وَرَمْسي
بِهِ فَخْـرُ الْفَوارِسِ مِنْ زُبَيـد كَـأنَّ جَـبِــيــنَهُ لَأْلَاءُ شَـمْــسِ
فَلَا سُقِّيـتِ يا كَفِّي الْغَوَادي وَلَاقَـيــتِ الْبَلاءَ وَكُلَّ نَحْـسِ
وَما تُغْنِي النَّدامَةُ وَالْمَراثي وَقَدْ أَصْبَـحْـتَ مِثْـلَ حَدِيثِ أَمْسِ
إلّا أنّ عدداً من الباحثينَ يشكّكونَ في صحّة هذا الخبر، ويروَنه جزءاً من الخيالِ الّذي حيكَ عن معظمِ الشّخصياتِ المعروفةِ بالفروسيّة عند العرب.
يُعَدُّ عَمْرُو بنُ معدي كَرِب من الأسماءِ اللَّامِعَةِ بالفروسيّةِ والشِّعرِ في فترةِ الجاهليّةِ وصدرِ الإسلام؛ فانحدارُهُ من أسرةٍ لها السِّيادَةُ على زُبَيد، بالإضافةِ إلى شجاعتِهِ المتناهيةِ ومهاراتِهِ القتاليّة، كلُّها أمورٌ أهّلَتهُ في حداثةِ سنِّهِ لأن يكونَ فارساً شديدَ البأسِ من فرسانِ قومِهِ، ثمّ ما لبثَ حتّى صارَ فارسَ اليمنِ الأعظم، وصنّفَهُ بعضُ القدامى على أنّهُ فارسُ العربِ الأوحد! وقد دخلَ عمرُو بنُ معدي كَرِب إلى الموروثِ العربيِّ بصفتِهِ المثالَ المحتذى بالفروسيّة والشجاعةِ والإقدام؛ فجاءَ بالمثل: "فارسٌ ولا كعمرو"، وقالَ أبو تمّام في مدحِ المعتصم:
إقْدامُ عَمْرٍو فِي سَماحَةِ حاتَمٍ فِي حِلْمِ أَحْنَفَ فِي ذَكاءِ إِياسِ
وقد جاءَ عنِ الخليفةِ عمر بنِ الخطابِ أنّهُ أرسلَ إلى سعدِ بنِ أبي وقّاص عمرَو بنَ معدي كَرِب وطلحةَ بنَ خويلد وقال له إنّه بعثَ له رجلينِ كلُّ واحدٍ منهما بألفِ فارِس!
وقد بدأتْ قصّةُ عمرِو بنِ معدي كَرِب مع الفروسيّةِ وهوَ شابٌّ صغيرٌ يافعٌ لا يُعَوِّلُ عليهِ القومُ في حروبِهم، حتّى لقد أطلقوا عليه صفة "مائقِ بني زُبَيد". وفي غمرةِ استعدادِ قومِهِ لقتالِ قبيلةِ "خثعم"، دخلَ عمرُو على أختِهِ فقال: "أشبِعيني، إنِّي غداً لكتيبةِ خَثْعَم"، فلمّا سمعَ بذلك أبوهُ سخرَ منه، ثمّ أمرَها أن تُشبِعَهُ كما طلب، فأكلَ عنزاً كاملةً وثلاثةَ أصواعٍ من الذُّرَة. فلمّا جاءَ الصَّباحُ تقدَّمَ عمرُو وبادرَ إلى لواءِ أبيهِ ليحملَه، فخافَ أبوهُ من تهوُّرِهِ وأمرَهُ أن يبتعد، إلّا أنّ بني زُبَيد قالوا له: "خلِّهِ وما يُريد، فإِن قُتِلَ كُفيتَ مَؤونتَه، وإن ظهرَ فهو لك"، فأخذَ عمرُو اللّواءَ ورمى بنفسِهِ في بني خثعم يُقاتلُهم، فرجحَت كفّةُ المعركةِ لبني زُبَيد، ومن ثَمَّ هُزِمَت خثعمُ بسببٍ من بأسِ عمرو في تلكِ الموقعة. ومنذُ ذلكَ اليوم، صارَ لقبُ عمرو "فارسَ زُبيَد".
ومنذُ تلك الموقعة، برزَ اسمُ عمرِو بن معدي كَرِب ضمنَ الأسماءِ الشّهيرةِ في الفروسيّةِ في شبهِ الجزيرةِ العربيّة، وقد خاضَ في جاهليّتِهِ عشراتِ المعاركِ مع قومِهِ ووثّقَ ذلكَ في شعرِه، يقولُ في يومِ "فيف الرّيح" الّذي شاركَ فيه ضمنَ قبائلِ مَذْحِج ضدّ بني عامر وغيرهم من القيسيّين:
وَلَقَـــدْ أَجْــمَـــعُ رِجْــلَيَّ بِهــا حَــذَرَ الْمَــوتِ وَإِنِّي لَفَــرورُ
وَلَقَــدْ أَعْــطِـــفُهـــا كَــارِهَـــةً حِيـنَ لِلنَّفْسِ مِنَ الْمَوتِ هَريرُ
كُـــلُّ مـــا ذَلكَ مِـــنِّي خُــلُقٌ وَبِـكُــلٍّ أَنا في الرَّوعِ جَدِيـرُ
ويقولُ في يومِ الغُمَيرِ الّذي وقعَ بينَ بني عَوْفِ حلفاءِ زُبَيد وبني سُلَيم:
لَمَّا وَقَعْنا في التَّنَازُلِ خَفْخَفَتْ مِثْـلَ النَّعامِ مَخَـافـةً لِلْأَشْقَـرِ
ثُمَّ اسْتَـمَـرَّ الْقَومُ فَوقَ رِكَابِهِمْ وَسُلَيمُ صَرْعى في الْعَجَاجِ الْأَكْدَرِ
ويقولُ في يومِ تثليثَ بينَ قبائلِ مَذحِج وسُليم ردّاً على العباسِ بن مرداس السُّلَمِيّ:
أَعَبَّاسُ لَوْ كَانَـتْ شِيـاراً جِيادُنا بِتَثْليثَ ما ناصَيتَ بَعْدي الْأحامِسا
لَدُسْنـاكُـمُ بِالْخَـيـلِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَـا دَاسَ طَبَّاخُ الْقُدُورِ الْكَرادِسا
بِـمُــعْــتَـرَكٍ شَطَّ الْحُبَـيَّا تَرَى بِهِ مِنَ الْقَومِ مَحْـدُوسـاً وَآخَرَ حادِسا
تَسَـاقَـتْ بِهِ الْأَبْطـالُ حَتَّى كَأَنَّها حَنِـيٌّ بَرَاهـا السَّيرُ شُعْثاً بَوَائِسا
ونقعُ في ديوانِهِ على قصيدةٍ يصفُ فيها بأسَهُ في حروبِ قومِهِ مع قبيلةِ هوازِن ورئاستَهُ للحرب وأسرَهُ للأبطالِ من خصومِه:
أَلَمْ تَرَنـي إِذْ ضَمَّنـي الْبَلَدُ الْقَفْرُ سَمِـعْـتُ نِداءً يَصْدَعُ الْقَلْبَ يا عَمْرُو
أَغِـثْــنــا فَـإِنّــا عُصْـبَـةٌ مَذْحِـجِـيَّةٌ نُـنــاطُ عَـلَى وَفْرٍ وَلَيسَ لَنا وَفْرُ
تُكَـلِّفُـنـا يا عَمْرُو ما لَيسَ عِنْدَنا هَوَازِنُ فَانْظُرْ ما الَّذي فَعَلَ الدَّهْرُ
فَـقُــلْتُ لِخَـيـلِي أَنْظِـرونِـي فَإِنَّنـي سَريـعٌ إِلَيكُـمْ حِيـنَ يَنْـصَدِعُ الْفَجْرُ
وَأَقْـحَـمْـتُ مُهْري حِيـنَ صادَفْـتُ غِرَّةً عَلَى الطَّفِّ حَتَّى قِيلَ قَدْ عُقِرَ الْمُهْرُ
فَـأَنْـجَـيـتُ أَسْرَى مَذْحِـجٍ مِنْ هَوَازِنٍ وَلَمْ يُنْـجِهِـمْ إِلَّا السَّكينَةُ والصَّبرُ
وَنادَوا جَمِـيـعـاً حُلَّ عَنَّاـ وَثاقَنا أَخا الْبَطْشِ إنَّ الْأَمْرَ يُحْدِثُهُ الْأَمْرُ
وَأُبْتُ بِأَسْـرَى لَمْ يَكُـنْ بَينَ قَتْلِهِمْ وَبَيـنَ طِعـانِي الْيومَ ما دُونَهُ فِتْرُ
يَـزيــدٌ وَعَـمْــرٌو وَالْحُصَـيـنُ وَمَالِكٌ وَوَهْـبٌ وَسُـفْــيــانٌ وَسـابِــعُهُـمْ وَبْرُ
وفي ظلِّ هذه الفروسيّةِ الفائقة، كان من الطّبيعيّ أن تؤولَ سيادةُ بني زُبَيد إلى عمرِو بن معدي كَرِب بعدَ وفاةِ أبيهِ ومقتلِ أخيهِ عبدِ اللهِ على يدِ بني مازن؛ فقد قَتَلَتْ بنو مازن عبد اللهِ وهوَ نازلٌ في ديارِهِم بعد أنْ ضربَ عبداً حبشيّاً لرجلٍ من بني مازن يُقالُ له "المخزَّم" كان يجلسُ مع بني مازِن وغنّى أبياتاً فيها تَشبيبٌ بامرأةٍ من بَني زُبَيد، فاستنجدَ العبدُ الحبشيُّ ببني مازن فوثبوا على عبدِ اللهِ وقتلوه! وبدأَ عمرُو بنُ معدي كَرِب رِئاستَهُ بتوعُّدِ بني مازن، إلّا أنّهم هادنوهُ وسألوهُ الرِّحِمَ وقَبولَ الدّية، فرقَّ لهُم، لولا أنّ أختَه "كبشة" استثارَتْ حَفيظتَهُ بأبياتٍ عيّرتُه فيها بحبِّهِ للطّعامِ ومسالمتِهِ لقتلةِ أخيه، تقول:
وَدَعْ عَنْكَ عَمراً إِنَّ عَمْراً مُسالِمٌ وَهَلْ بَطْنُ عَمْرٍو غَيْرُ شِبْرٍ لِمَطْعَمِ
فَإِنْ أَنْتُمُ لمْ تَقْبَلُوا واتَّدَيْتُمُ فَمَشُّوا بِآذانِ النَّعامِ الْمُصَلَّمِ
أَيَقْتُلُ عَبْدَ اللهِ سَيِّدَ قَوْمِهِ بَنُو مازِنٍ أَنْ سُبَّ راعِي الْمُخَزَّمِ!
وهكذا أعلنَ عمرُو حربَ الثّأرِ على مازن، وبدأَ يُغيرُ عليهم المرّةَ تلو الأخرى، وفي ديوانِهِ قصائدُ ومقطوعاتٌ عن قِتالِهِ لبني مازن، وأُولى تلك المقطوعاتِ مقطوعةٌ يصفُ فيها صراعَهُ الدّاخليَّ تجاهَ قتالِ بني مازِنٍ ويُنهيها باستعدادِهِ للحرب:
أَرِقْتُ وَأَمْسَـيـتُ لَا أَرْقُدُ وَسَاوَرَني الْمُوجِعُ الْأَسْودُ
وَبِـتُّ لِذِكْرَى بَنِـي مازِنٍ كَـأنِّيَ مُـرْتَــفِــقٌ أَرْمَـدُ
أَأَغْزو رِجَالَ بَنِـي مَازِنٍ بِبَـطْـنِ تَبَالَةَ أَمْ أَرْقُدُ؟
وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ فَضْـفاضَةً كَـأَنَّ مَـطــاوِيَهــا مِبْـرَدُ
ثمّ لما اشتدَّ عليهم بالحربِ قالَ يصفُ ذلك:
تَـمَـنَّتـْ مازِنٌ جَهْلاً خِلاطِـي فَذاقَـتْ مَازِنٌ طَعْـمَ الْخِلاطِ
أَطَلْتُ فِراطَـكُـمْ عاماً فَعَاماً وَدَيْـنُ الْمَذْحِـجِـيِّ إِلى فِراطِ
أَطَلْتُ فِراطَـكُـمْ حَتَّى إِذا ما قَتَـلْتُ سَرَاتَـكُـمْ كَانَتْ قَطَاطِ
غَـدَرْتُـمْ غَدْرَةً وَغَدَرْتُ أُخْرَى فَمـا إِنْ بَيـنَنا أَبَداً يَعَاطِ
ويقولُ أيضاً:
خُذُوا حُقُـقـاً مُخَـطَّمَةً صَفَايا وَكَيـدِي يا مُخَزَّمُ أَنْ أَكِيدا
قَتَـلْتُـمْ سَادَتِـي وَتَرَكْتُمُوني عَلَى أَكْتَـافِـكُمْ عِبْئاً جَدِيدا
فَمَنْ يَأْبَى مِنَ الْأَقْوَامِ نَصْراً وَيَتْـرُكُـنـا فَإِنَّا لَنْ نُرِيدا
وبظُهورِ الإسلام، كانَ عمرُو بنُ معدي كَرِب أحدَ أولئكَ الّذينَ وفَدُوا إلى الرّسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم مع قبيلتِهِ الكبرى "مَذْحِج" بزعامةِ فروةَ بنِ مُسَيك المُراديّ لإعلانِ إسلامِهم في عامِ الوفودِ سنة 9 للهجرة، ولم يكُنْ إسلامُهُ حدثاً شخصيّاً بقدرِ ما كانَ استجابةً للظُّروفِ المحيطةِ به، والّتي كانت تُشيرُ إلى صعودِ الإسلامِ بصفتِهِ ديناً موحّداً لجزيرة العرب. ومن الواضحِ أنّ عمرَو بن معدي كَرِب لم يَكُن مهتمّاً بالإسلامِ بصفتِهِ تجربةً روحيّةً بقدرِ اهتمامِهِ بهِ بصفتِهِ تجربةً سياسيّة؛ لذلك فقد نصحَ ابنَ أختِهِ "قيسَ بن المكشوح المُراديّ" بأن يذهبَ هوَ على رأسِ الوفدِ الّذي يُعلنُ الإسلام فقال: "بادِر فروةَ لا يغلبْكَ على الأمر"، وفي ذلك إشارةٌ إلى أنّ السَّبقَ إلى الإسلام آنذاك كان بمثابةِ إحرازِ الحظوةِ ضمنَ الظّروفِ السّياسيّةِ والدّينيّة الجديدة. وتدلُّ الكثيرُ من الرّواياتِ على رقّةِ دِينِ عمرِو بنِ معدي كَرِب؛ من ذلك ما قيلَ في شُربِهِ للخمرِ في الإسلام، وفي تفضيلِهِ تحيّةَ "عِمْ صَباحاً" على "السّلام عليكم" وغير ذلك.
وبما أنّ إسلامَ عمرِو بن معدي كَرِب لم يكُن نابعاً من قناعةٍ حقيقيّةٍ بالدّين، فقد كان من الطّبيعيّ أن يندرجَ في حركةِ الرّدّةِ معَ مَن ارتدَّ من العرب؛ فانضوى تحتَ رايةِ الأسودِ العنسيّ الّذي منحهُ السّيادَةَ على قبائلِ مَذْحِج ونزعَها عن فروةَ بن مُسيك المُراديّ، لكن لَم يطُلِ الوقتُ كثيراً حتّى جاءَت وفودُ أبي بكرٍ الصّدّيق إلى القبائلِ المرتدّة، فما كان من عمرٍو إلّا أنْ دخلَ على المهاجر بنِ أبي أميّة عاملِ أبي بكرٍ على اليمن، فأوثقَهُ المهاجرُ وبعثَ به إلى أبي بكرٍ في المدينة، فقالَ لهُ أبو بكر: "أما تستحي أنّك كلّ يومٍ مهزومٌ أو مأسور؟ لو نَصَرْتَ هذا الدِّينَ لرفعَكَ الله"، فاعتذرَ إليهِ عمرٌو وقال: "لا جَرَم، لأقبلنَّ ولا أعود"، فقبلَ أبو بكرٍ اعتذارَهُ وعادَ عمرٌو إلى اليمنِ في جُملةِ المسلمين.
وفي السّنةِ الثالثةَ عشرةَ للهجرة، قدمَ أنسُ بن مالك إلى أهلِ اليمنِ بكتابٍ من أبي بكرٍ الصّدّيق يحضُّ فيه اليمانيّين على الالتحاقِ بجيوش الجهادِ في الشّام، فلبّى عمرٌو النّداءَ وخرجَ فيمن خرَجَ من قبيلتِهِ لمساندةِ المسلمينَ في حركةِ الفتوحاتِ الإسلاميّة، فشاركَ في اليرموكِ مع جيشِ خالدِ بن الوليد وأبلى بلاءً حسناً، ثمّ التحقَ بعد اليرموكِ بجيشِ سعدِ بن أبي وقّاصٍ في القادسيّة بأمرٍ من أبي عبيدةَ عامرِ بن الجرّاح، وشاركَ في القادسيّة مشاركةً لافتةً أكثرتِ المصادرُ العربيّةُ من الإشارةِ إليها؛ لما فيها من بُطولةٍ وإقدامٍ منقطعي النّظير.
مِنْ ذلكَ أنّ بعضَ المصادرِ أشارَت إلى أنّ عمرَو بن معدي كَرِب هو قاتلُ رُسْتُم الفارسيّ، لكن يبدو أنّ هذا الخبرَ اختلطَ بخبرٍ آخرَ يُشيرُ إلى قتلِ عمرِو بن معدي كَرِب لأحدِ أبطالِ الفرسِ المدجّجين، وكانَ قد رمى رمحَهُ باتّجاهِ عمرو فأصابَ ذراعَه، غيرَ أنّ عمرًا حمل عليهِ حملةً واحدةً واعتنقَه وذبحَه، ثمّ سلبَه سوارينِ من الذّهب كانا عليهِ وقباءَ ديباج. وقالَ في ذلك:
أَنا أَبُو ثَوْرٍ وسَيْفِي ذُو النُّونْ أَضْرِبُهُمْ ضَرْبَ غُلامٍ مَجْنُونْ
يا لَزُبَيْدٍ إِنَّهُمْ يَمُوتون!
ومِمّا قالَهُ أيضاً في بطولاتِهِ بالقادسيّة:
إِنَّ الْأَعاجِـمَ عِنْـدَ الْحَرْبِ قَدْ عَرَفُوا أَرْبـابَ حَـرْبٍ وَأَبْـطــالاً أَبـابِـيـلا
بِـالْقــادِسِــيَّةِ وَالْأَحْـيِــاءُ شاهِـدَةٌ رَدَّتْ كَتـائِبُـنـا الْفُرْسـانَ وَالْفِيـلا
ما زَالَ قَومِي لَدَى الْهَيجاءِ إِنْ لَقِحَتْ حَـرْبٌ ضَـروسٌ تَـراهُـمْ نَحْـوَهـا حِيـلا
مَـنْ سـالَمُــوهُ فِـإِنَّ السِّلـْمَ راحَـتُهُ أَو حَارَبُـوهُ فَقَـدْ يَلْقَـى التَّناكِيلا
ومن الواضحِ أنّ المسلمينَ استفادُوا كثيراً من خبراتِ عمرِو بن معدي كَرِب وفنونِهِ في القتال؛ إِذْ تروي المصادرُ أنّ عمرَو بن معدي كربَ قد أوصى المسلمينَ في القادسيّة بالطّريقةِ المُثلى لقتلِ فيلةِ الفُرس؛ وهي أن يشتدُّوا بضربِها بالسُّيوف. وقد رُوِيَ أنّ عمرَ بن الخطّاب أوصى سعدَ بنَ أبي وقّاص بالأخذِ بمشورةِ عمرو، غيرَ أنّه حذَّرَهُ مِن أن يولّيَه شيئاً من القيادةِ في الجيش؛ وذلك بسبب ارتدادِهِ السّابق. وتُشيرُ الرّواياتُ إلى أنّ سعدَ بنَ أبي وقّاص قد أخذَ بنصيحةِ عمر كذلك فلم يُعطِ عمرو بن معدي كرِب من غنائمِ القادسيّةِ أكثرَ ممّا يستحقُّه، وفضّلَ عليهِ حملةَ القرآنِ الكريم والسّابقينَ في الإسلام، وتُطالعُنا في ديوانِ عمرو قصيدةٌ يهجو فيها سعداً ويعيِّرُهُ بأنّه لم يُشارِك في المعركة، جاءَ فيها:
أَلَا أَبْلِغْ أَميـرَ الْقَومِ سَعْـداً فَــقَـــدْ كَـذَبَــتْ أَلِيَّتـُهُ وَجَـارا
وَحَــرَّقَ نــابَهُ ظُــلْمـــاً وَجَهْـلاً عَـلَيَّ فَـقَــدْ أَتَـى ذَمّـاً وَعَـارا
هُبِـلْتَ لَقَدْ نَسِـيـتَ جِلادَ عَمْرٍو وَأَنْـتَ كَـخــامِــعٍ تَلِجُ الْوِجارا
أُطَـاعِــنُ دُونَـكَ الْأَعْداءَ شَزْراً وَأَغْشَـى البِيضَ وَالْأَسَلَ الْحِرارا
بِـبـابِ الْقَادِسِـيَّةِ مُسْـتَـمِـيـتـاً كَـلَيـثِ أُرَيْكَـةٍ يَأْبـى الْفِرارا
أَكُـرُّ عَـلَيــهِــمُ مُهْـري وَأَحْـمِــي إِذَا كَرِهُـوا الْحَقَائِقَ وَالذِّمارا
جَزَاكَ اللهُ فِي جَنْـبِـي عُقُـوقـاً وَبَـعْــدَ الْمَـوتِ زَقُّومـاً وَنَـارا
وقد شهِدَ عمرُو بن معدي كَرِب بعد معركتي اليرموكِ والقادسيّة مع المسلمينَ معركةَ نهاوند بقيادة النعمانِ بن مقرِّن، وقيلَ إنّهُ استُشْهِدَ في المعركة، وقيلَ إنّهُ ماتَ في حركةِ الفتوحاتِ الإسلاميّة في بلاد فارس في أرضٍ يُقالُ لها "رُوذَة" بعد أن أصابَهُ الفالج، وهو القولُ الأقربُ للصّواب في رأي عددٍ من الباحثين، وذلك في آخر خلافةِ عمر بن الخطّاب.
ومِن خصائصِ شخصيّةِ عمرِو بن معدي كَرِبَ الّتي تجتمعُ مع فروسيّتِه أنّهُ كانَ جسيماً عظيمَ البُنية، حتّى إنّ عمرَ بنَ الخطّابِ كان يقولُ متعجّباً من عِظمِ جسمِه: "الحمدُ للهِ الّذي خلقَنا وخلقَ عَمراً!". كما أنّ عمرَو بنَ معدي كرِب من مشهوري العربِ في كثرةِ الطّعام؛ إذ كانَ أكولاً إلى الحدِّ الّذي قيلَ فيهِ إنّه يأكلُ ما يأكلُهُ ثلاثةُ رجال، وقد ذكرَ أنّه يستطيعُ أكلَ جَذَعٍ من الإبل (الجَذَع: الإبلُ الّتي استكملت السنة الرابعة) وحدَه!
ويذكرُ مؤرّخو الأدب –كالأصفهانيّ وغيره- أنّ عمرو بن معدي كرب كان مشهوراً بالكذب والتّحديثِ بالأخبارِ غير الصّحيحة عن فروسيّته بالجاهليّة.
وقد هُيِّئَ لعمرِو بن معدي كَرِب ألّا يشتهرَ في التّاريخِ العربيِّ وحدَه، بل اشتُهِرَ معَهُ سيفُهُ المُسمّى بـ"الصَّمْصامة"، وهو سَيْفٌ أكثرَ الرّواةُ العربُ من ذكرِهِ وذكرِ عجائبِه؛ فقد كان وزنُهُ ستّةَ أرطال، وكان له حدٌّ من جانبٍ واحد، وقد زعمُوا أنّه سيفٌ قديمٌ جدّاً أهداهُ لعمرو ملكُ حميرَ علقمةُ بنُ ذي قَيفان، وكانَ هذا الملكُ قد ورثَهُ من حضارةِ عاد البائدة! وقد ذكرَه عمرُو في شعرِه فقال:
وَسَيـفِـي كَانَ مِنْ عَهْدِ ابْنِ ضِدٍّ تَـخَـيَّرَهُ الْفَتَـى مِنْ قَومِ عَادِ
وقد وهبَ عمرُو بن معدي كَرِبَ سيفَهُ الصَّمصامةَ هذا إلى خالدِ بن سعيد بن العاصِ منذُ حروبِ الرِّدَّة، وظلّ في أسرةِ سعيد بن العاصِ إلى أن اشتراهُ بنو أميّة، وظلّ ضمن مقتنياتِ بني أميّة حتّى زالت دولتُهم، فطلبه السّفّاح والمنصور والمهديّ ولم يجدوه، ثمّ جدَّ الهادي في طلبِهِ حتّى وجدَه، وظلّ في بني العبّاس حتّى عهدِ المتوكِّل. ويُقال إنّ المتوكّل أهداهُ لغلامِهِ "باغر" الّذي قتلَه به، وبعد هذا الخبر، اختفت قصصُ الصّمصامةِ مع الخلفاء من كتبِ التّاريخ.
ومن المهمِّ أن نذكرَ أنّ عمرَو بنَ معدي كَرِب كانَ من الشُّعراءِ المعمَّرين؛ فقد قيلَ إنّه شهد القادسيّة وعمرُهُ قد ناهزَ المئة! وهُو، وإن كانَ شاعراً مخضرماً، إلّا أنّ ما شهدَه في الجاهليّة أضعاف ما شهدَه في الإسلام؛ إذ يتّفقُ عددٌ من الباحثينَ على أنّه وُلِدَ نحو عام 74ق.ه الموافق لـ549م.
تُبالغُ بعضُ المصادرِ التّراثيّة في تقديرِ سنةِ وفاةِ عمرو بن معدي كَرِب وترتفعُ بها إلى ما بعد معركةِ صفّين وإلى عهدِ معاويةَ بنِ أبي سُفيان، إلّا أنّ أغلبَ المصادرِ تُشيرُ إلى أنّ وفاتَهُ كانت في السّنةِ نفسِها الّتي حدثَت فيها معركةُ نهاوند، وهي سنة 21 للهجرة الموافقة لـ642م، وهذا الرّأيُ أخذَ بهِ معظمُ مؤرّخي الشّعرِ العرب المعاصرين؛ من مثلِ جرجي زيدان، وخير الدّينِ الزِّرِكليّ، وخليل حاوي ومطاع صفدي، وغيرِهم. ويتّفقُ فريقُ الموسوعة الشّعريّة مع هذا التّاريخ، وهكذا تكون ولادةُ عمرو بن معدي كَرِب نحو سنة 75ق.ه الموافقة لـ549م، وتكون وفاتُه سنةَ 21هـ الموافقة لـ642م، وبذلك يكونُ عمرُهُ عند الوفاةِ نحو 96 عاماً.
من المهمِّ أن نشيرَ إلى أنّ مكانةَ عمرو بن معدي كرِب الشّعريّة شديدةُ الارتباطِ بفروسيّتِهِ؛ ذلك لأنّ موضوعات شعرِهِ في أغلبها تدورُ حول الحماسة والفروسيّة وشدّة البأس ومعالجةِ الحروب، وقلّما نجدُ في ديوانِهِ مقطوعاتٍ تلمسُ الأغراضَ الفنّيّة المعروفة في شعرِ العرب، وسنسرُدُ هنا نُتَفاً من مكانتِهِ الشّعريّة لدى العلماء ونقّاد الشّعر ورواتِه والباحثين فيه:
أُريدُ حِباءَهُ ويُريدُ قَتْلي عَذِيرَكَ مِنْ خَليلِكَ مِنْ مُرادِ
جمعَ أبو عمرو الشّيبانيّ شعرَهُ، وكذلك فعلَ ابنُ الأعرابيّ، وأبو سعيد السُّكّريّ. إلّا أنّ هذه المجموعات ضاعت فيما ضاعَ من مخطوطاتِ الأدب العربيّ.
يَعُدُّ الأصمعيُّ عمرَو بنَ معدي كَرِب ضمنَ الشُّعراءِ الفُرسان، وقد اختارَ لهُ في الأصمعيّات ثلاثَ الأصمعيّات، هي الأصمعيّة 34، والأصمعيّة 61، والأصمعيّة 62.
ترجمَ لهُ ابنُ قُتيبةَ الدَّينَوَرِيّ في كتابه "الشّعر والشّعراء" واستجادَ قصيدتَهُ الّتي مطلعُها:
أَمِنْ رَيحانَةَ الدَّاعِي السَّميعُ يُؤرِّقُـنـي وَأَصْحـابـي هُجُـوعُ؟
اختارَ لهُ أبو تمّام في حماستِهِ الكبرى ثلاثَة اختيارات، هي الاختيارات 29، 34، 35، واختارَ له في حماسته الصغرى (الوحشيات) اختياراً واحداً، هو: الاختيار 268.
اختارَ له البحتريُّ في حماستِهِ مجموعةً هائلةً من الاختيارات بلغت 14 اختياراً، وهي الاختيارات: 2، 137، 172، 190، 195، 200، 222، 239، 348، 349، 610، 648، 1111، 1297.
اختارَ له ابنُ الشّجريّ مجموعةً من الاختيارات الشّعريّة، وهي الاختيارات: 19، 20، 21، 22، 23، 24، 25.
صنَّفَهُ جرجي زيدان ضمن الطبقة الثّالثة من الشُّعراء اعتماداً على تصنيف إسكندر أبكاريوس.
اختارَ لهُ خليل حاوي ومطاع صفدي مجموعة من الاختيارات في كتابهما "موسوعة الشّعر العربيّ)
فَأَمَّا وَعَمْرٌو في زُبَيْدٍ فلا أَرى لَكُمْ غَزْوَهُمْ فَارْضُوا بِما حَكَمَ الدَّهْرُ"
(عامرُ بنُ الطّفيل في الإشادةِ ببأسِ عمرو بن معدي كَرِب)
لِكُلِّ أُناسٍ سَيِّدٌ يَعْتَزُونَهُ وَسَيِّدُ هَذا الْحَيِّ مِنْ مِذْحَجٍ عَمْرُو
(المِجَنّ بن جُدين يمدحُ عمروَ بن معدي كَرِب بعد أن أطلقَه من الأسر)
قَرَيْتَ فَأَكْرَمْتَ الْقِرى وَأَفَدْتَنا نَخِيلَةَ عِلْمٍ لَمْ يَكُنْ قَطُّ يُعْرَفُ"
(عُيَيْنَةُ بنُ حِصن في مدحِ عمرو بن معدي كَرِب)
"الحمدُ للهِ الّذي خلقنا وخلقَ عَمْراً" (عمر بن الخطّاب متعجّباً من جَسامَةِ عمرِو بنِ معدي كَرِب).
"إنّ في جندِكَ رجلينِ: عمرو بن معدي كرِب، وطليحة بن خويلد الأسديّ، فأحضرهما الحربَ وشاورهما في الأمر، ولا تولّهما عملاً)
(عمر بن الخطّاب في وصيّة للنعمان بن مقرِّن)
(سعد بن أبي وقّاص يذكر شجاعةَ عمرو في القادسية)
"لا نُفَضِّلُ على عَمرو فارساً في العرب". (أبو عمرو بن العلاء).
"عمرُو بنُ معدي كَرِب فارسُ اليمَن، وهو مقدَّمٌ على زيدِ الخيلِ في الشِّدَّةِ والبأس". (أبو عبيدةَ معمر بنُ المثنّى)